كان الصمت الذي أعقب المذبحة في الوديان أثقل من صليل السيوف نفسها، صمتٌ سامٌّ يزحف على الرمال الملطخة بسواد الظلام، نذيرًا بسقوط العهد القديم. وقف السلطان في وسط الوادي، وشعره الأبيض المبكر يرفرف في ريح باردة لا تليق بدفء مكة، وعيناه الزرقاوان - اللتان كانتا تلمعان كالصقيع - سوداوان الآن، تعكسان صورة أخيه الواقف وسط جثث الفرسان السود. بدا خالد كتمثال منحوت من الفحم، ويداه تقطران بالمادة اللزجة المستخرجة من عروق أعدائه، وعيناه البنفسجيتان، لا تزالان تحترقان بجوع غير طبيعي، تحدقان في الفراغ بطريقة جمدت دماء الفرسان المرافقين.
لم يجرؤ أي فارس من فرسان مكة على الاقتراب؛ حتى الخيول، تلك المخلوقات التي اعتادت رائحة الموت في ساحة المعركة، ضربت الأرض بحوافرها وتراجعت، مبتعدةً عن خالد كما لو كان كائناً بُعث من قبر منسي. ليلى الرياح، وهي تمسح نصل مروحتها بقطعة قماش حريرية، لم تُحِد عينيها العنبريتين عن خالد؛ فقد صرخت غرائزها الشرقية بأن التوازن الذي جاءت لإعادته يختل بشكل خطير، وأن الظلام الذي امتصه خالد لم يكن قوة عابرة، بل فساداً استقر عميقاً في روحه.
خطا السلطان خطوة واحدة إلى الأمام؛ سقطت قدمه المدرعة بصوت طقطقة جافة مثل العظام المتكسرة وسط صمت الجنازة، ونادى بصوت مرتعش: "خالد... انظر إليّ".
استدار خالد ببطء، وفي اللحظة التي التقت فيها عيناه البنفسجيتان بعيني سلطان الزرقاوين، شعر سلطان بصدمة في رمز الماء خاصته - ليس ألمًا جسديًا، بل اغترابًا روحيًا. اختفى التوهج البنفسجي في عيني خالد كما يختفي مد أسود عن شاطئ محترق، تاركًا وراءه ظلامًا خافتًا بلا حياة. انهار خالد على ركبتيه، وغرز أصابعه في الرمال الحارقة وهو يتقيأ مادة سوداء كثيفة ممزوجة بدمه الأحمر القاني، بينما هرع سلطان إليه، متجاهلًا تحذيرات ليلى العاجلة، وأمسك بكتفي أخيه بقوة هزت دروعهما الملطخة بالرماد.
همس سلطان: "انتهى الأمر يا أخي. نحن هنا، عد إلينا." اندفعت حرارة ختم النار لديه غريزيًا، محاولةً تبديد البرد القارس المنبعث من جسد خالد، كما لو أن الصقيع قد نزل من عالمٍ بلا شمس. لم يُجب خالد، بل أسند رأسه المثقل على صدر سلطان المدرع، أنفاسه ثقيلة ومتقطعة، يزفر رائحة الكبريت والندم.
اقتربت ليلى بحذر، وارتطم ثوبها الحريري بالشظايا المتناثرة على الأرض، وقالت بحزم: "ما فعله خالد اليوم لم يكن مجرد دفاع عن النفس. لقد فتح شرخاً في روحه من أجل الأباطرة. الأرض تحت أقدامنا تشعر بهذا الفساد، ويجب أن نحضره إلى الشيخ عبد الرحمن قبل أن يتحول هذا الظل إلى وحش لا يمكن السيطرة عليه."
رفع السلطان رأسه، وتألقت عيناه الزرقاوان بغضب مكبوت لم تشهده ليلى من قبل. "الأرض التي تتحدثين عنها لم تحمنا حين وُجهت الرماح السوداء إلى قلوبنا، يا ابنة الرياح. لقد فعل خالد ما كان يجب فعله، وسأحمله على كتفي إلى مكة إن لزم الأمر، ومن يجرؤ على إيذائه سيوقظ النار والماء في عروقي."
خيم الصمت على الحلفاء مجدداً، صمت ثقيل خانق. لم تنطق ليلى بكلمة، بل أومأت برأسها نحو مكة، التي بدت كحصن منيع وسط بحر من الغبار السام.
بدأت رحلة عودتهم تحت غسقٍ كئيب، حيث لم تكن النجوم تتلألأ، بل بدت كثقوبٍ في قماشٍ أسودٍ بالٍ. قاد سلطان حصان خالد من لجامِه بينما كان أخوه يجلس عليه كجثةٍ هامدة، وعيناه مثبتتان على عنق الحصان، ويداه ترتجفان، تخفيان بقايا ظلامٍ لم يطهرها الماء بعد. مع كل هبة ريح، شعر سلطان بنبض ختم النار خاصته، محذرًا إياه من وجودٍ خفيٍّ يتربص بهم عبر الوديان، كما لو أن أباطرة الشياطين، الساخطين على ما أخذوه من خالد، يتوقون للمزيد.
عند وصولهم إلى أبواب مكة، كان الاستقبال باهتًا ومُرعبًا. الحراس، الذين كانوا يُهلّلون عادةً للسلطان كبطلٍ مُبجّل، تراجعوا عند رؤية حال خالد. كانت رائحة القبور والفساد تفوح من المجموعة. وقف الشيخ عبد الرحمن عند مدخل القلعة، ممسكًا فانوسًا قديمًا مُضاءً بزيتٍ نقي، ونظراته تخترق القلوب. دون أن ينبس ببنت شفة، أشار إلى قبو التطهير العميق، وهو مكانٌ لم يُفتح لعقود، حيث حُفظت أسرار العهد - أسرارٌ لا يُمكن لأي إنسانٍ عاديّ أن يشهدها.
تردد صوت الشيخ في أرجاء الممر الحجري: "أدخلوه، واتركوا سيفه. فالظلام لا يحتاج إلى سيف ليقتل سيده." حاول السلطان الاعتراض، لكن صقر، والده، الذي كان يراقب من الظلال، وضع يده الثقيلة على كتف ابنه قائلاً: "دعه يذهب يا سلطان. الشيخ يعلم ما نجهله، وعلينا نحن الجنود حماية المدينة من عدو ربما أدخلناه إلى وسطنا."
انجذب خالد إلى القبو، وألقى نظرة أخيرة على سلطان - نظرة ممزوجة بالخوف والاعتذار، كما لو كان يتوسل إلى أخيه ألا يتركه وحيدًا في ذلك الظلام. انكسر قلب سلطان؛ فالبطل الذي أقسم على إنقاذ العالم لم يستطع إنقاذ أخيه من كوابيسه. في تلك الليلة، لم ينم سلطان؛ فقد أمضى ساعات في ساحة التدريب، يُفرغ غضبه على دمى خشبية حتى تحطمت تحت ضربات سيفه. استدعى الماء والنار معًا، فأرسل البخار والحرارة ينفجران من حوله، ولم ترَ عيناه الزرقاوان شيئًا سوى وجه الفارس الأسود يضحك عليه في الوادي.
انضمت إليه ليلى الرياح في الفناء، تتحرك برشاقةٍ كأنها لا تطأ قدميها الأرض. قالت وهي تراقبه وهو يلوّح بسيفه الضخم: "لن يمحو التدريب شكوكك يا سلطان. خالد ليس مجرد أخٍ لك، بل هو مرآة الجانب المظلم من هذه النبوءة. إذا كان شعرك الأبيض يرمز إلى نور العهد، فإن ظلامه يجسد الخراب الذي سيخلفه ذلك النور."
توقف السلطان، وارتفعت أنفاسه كزئير الأفاعي. "لماذا تصرّون على رؤيته عدوًا؟ لم يطلب هذا المصير، تمامًا كما لم أطلب أن يولد العالم من ألم أمي وموتها."
اقتربت ليلى، فشعر السلطان ببرودة الريح التي زفرتها. "لأنني رأيت ما يفعله الساب في أرضي. يبدأ كقوة، ثم يصبح حاجة، وفي النهاية، يسيطر على الجسد. خالد الآن في مرحلة الحاجة، وإذا لم نجد قلب العناصر في الشمال، فسيصبح بوابة بشرية للأباطرة إلى مكة."
في تلك اللحظة، انطلقت صرخة مكتومة من أعماق قبو التطهير - لم تكن صرخة بشرية، بل صدى جوقة من آلاف الأرواح المعذبة تجد صوتها في حنجرة خالد. اندفع سلطان نحو القبو، متجاهلاً كل القواعد، ليجد الشيخ عبد الرحمن يكافح لإبقاء خالد على الطاولة الحجرية بينما ترتفع خيوط سوداء من مسامه، ملتصقة بالجدران.
صرخ الشيخ وهو غارق في العرق: "أمسك به يا سلطان! استخدم سحر النار! استخدم حرارة التطهير!"
أمسك السلطان بيدي أخيه، وشعر بالبرد يحاول تجميد دمه، مركزًا كل إرادته على كتفه الأيسر. انبعثت حرارة هائلة من راحتيه - لهيب أبيض مقدس بدأ يحرق الخيوط السوداء المتصاعدة من جسد خالد. تلوى خالد، يصرخ بلغة قديمة، متحدثًا عن السقوط العظيم وعرش العظام، بينما كان السلطان يحتضنه، والدموع تنهمر من عينيه الزرقاوين، هامسًا: "لن أتركك... لن أتركك للظلام".
استمر الصراع لساعات حتى خمدت النيران وسكنت الظلال. دخل خالد في غيبوبة عميقة، وجهه شاحب كالكفن، وشعره الأسود يلتصق بجبهته من الإرهاق. وقف سلطان يرتجف، يحدق في يديه المحترقتين، مدركًا أن المعركة الحقيقية لم تبدأ في الوديان، بل بدأت هنا، في قلب أخيه.
تنهد الشيخ عبد الرحمن وهو يمسح وجهه بعباءته، وقال: "لقد أزلنا الفساد الظاهر، لكن الجوهر لا يزال قائماً. لقد ترك الأباطرة بصمتهم عليه يا سلطان. يراهم في أحلامه ويسمع همساتهم في يقظته. لم تعد مكة آمنة له، ولا لنا، ما دام حياً."
سأل السلطان بحدة: "ماذا تقصد؟"
"هذا يعني أن الرحلة يجب أن تبدأ فورًا،" قاطع صقر، واقفًا صامتًا عند المدخل. "لم تكن القافلة التي هاجمها الفرسان السود رحلة حج عادية، بل كانت تحمل مخطوطات من القارة الغربية، تتحدث عن عين العاصفة في الشمال المتجمد، المكان الذي سقطت فيه أولى شظايا العهد. هناك فقط يمكن تطهير روح خالد، وهناك فقط يمكن للسلطان أن يجد عنصري الأرض والريح لإكمال قوته."
عند الفجر، اكتست مكة بلون دموي، ونذرت السماء بمطر من الرماد. وقف الأبطال الثلاثة عند البوابة العظيمة: السلطان، مرتدياً درعاً ذهبياً، وشعره الفضي متألق؛ وليلى الرياح، يغطي وشاحها نصف وجهها، وقوتها تنبض مع كل هبة ريح؛ وخالد، ممتطياً جواده في صمت، وعيناه الغائرتان كأنه يرى عالماً خفياً عن الآخرين.
سلّم صقر سلطان راية مكة، وأعطاه الشيخ عبد الرحمن قارورة صغيرة من ماء بئر قديمة قيل إنها لا تنضب. وتحدث الشيخ بصوت مرتعش: "انطلقوا يا أبنائي، ولا تلتفتوا إلى الوراء. فالمكان الذي أنتم ذاهبون إليه لا يعرف الرحمة، والشك عدوٌّ يسبق الوحوش".
انطلقت الخيول تعدو، وحوافرها تودع المدينة التي احتضنت طفولتها. كان السلطان في المقدمة، مثقلًا بعبء النبوءة. في كل مرة كان يلقي نظرة خاطفة على خالد السائر خلفه، كان يدعو ألا يضطر أبدًا لاستخدام قوته ضد الظل الذي أحبه. راقبت ليلى الطريق، ويدها لا تفارق مروحتها، مدركة أن القارات الثلاث تنتظر خطواتهم التالية: إما الخلاص لاستعادة العهد، أو السقوط الذي سيفتح أبواب الجحيم.
وبينما كانوا يغادرون أسوار مكة، اهتزت الأرض نفسها؛ واتسعت الشقوق، والتفت أبخرة بنفسجية حول أرجل الخيول كالأفاعي المفترسة. قبض السلطان على لجام حصانه بقوة، وشعر ببرودة رمز الماء ودفء رمز النار، كما لو أن جسده أصبح بوصلة تشير إلى الشمال - نحو منبع كل شر، نحو أول اختبار سيحدد من سيبقى إنسانًا، ومن سيصبح أسطورة ملطخة بالدماء.
