لم يطل ويليام الانتظار، فبعد بضعة أيام عاد يقف أمام والده، يُحاول إقناعه. قال بصوت يحمل مزيجًا من الرجاء والعناد:
"أبي... أرجوك. دعني أذهب معها. العالم يتغير بسرعة، وإن بقينا هكذا سنُسحق، ولن يكون مصيرنا لطيفًا أبدًا."
رفع جاك نظره نحوه، وهو جالس على الأريكة المتواضعة التي اعتاد أن يرتاح عليها بعد العمل. كانت ملامحه حادة، محفورة بعلامات تعب السنين، وعيونه البنية لا تزال محافظة على تلك الصرامة التي تميّزه كربّ أسرة عاش حياته في الكدّ.
تنهد ببطء ثم قال بصوت أثقل مما توقع ويليام:
"آه... ماذا أفعل معك؟"
سكت ثانية، قبل أن يرفع يده باستسلام خفيف:
"اذهب... لكن تحمّل المسؤولية."
لم يستطع ويليام السيطرة على سعادته. نظر إلى فيكتوريا بفرحٍ واضح، ثم جذبها من يدها بحماس خفيف قبل أن يتوجها معًا نحو أقرب حجر اختباري احتلته إحدى الطوائف.
كانت تلك الطائفة تُسمّى طائفة السحابة السوداء، إحدى الطوائف الشيطانية المصنّفة في الدرجة الوسطى، حسب اللوائح التي حملها التلاميذ يوم ظهور الحجارة.
احتوت الصفحات الأولى من اللوائح على تصنيفات دقيقة:
درجات الطوائف:
الدرجة الدنيا
الدرجة المنخفضة
الدرجة الوسطى
الدرجة العالية
درجة القمة
قوة الروح:
أبيض → أحمر → برتقالي → أزرق → بنفسجي → زمردي → أسود
درجة النخاع:
منخفضة → متوسطة → عالية → متفوقة → نادرة → خرافية → فريدة
أما قوة الإرادة فلم يكن لها تصنيف محدد، لكن الجميع لاحظ أن التلاميذ تتغير تعابيرهم كلما ارتفع الرقم في الجهاز المخصص لقياسها.
_______________________________________________
وصل ويليام و فيكتوريا الى ذلك المكان المشؤوم
كان الطريق المؤدي إلى الحجر يبدو وكأنه ممرّ فاصل بين عالمين.
على جانبيه امتدت مبانٍ منهارة فقدت ألوانها، جدرانها مليئة بالشروخ، تتدلى منها أسلاك محترقة تلمع عند ملامسة الريح وكأنها تُصدر أنينًا حزينًا. تلتصق على الأرض بقايا أوراق وملصقات قديمة ملطخة بالغبار، يدوسها الناس دون التفات، فالجميع منشغل بما ينتظرهم أما السحب فوق رؤوسهم فلم تكن مجرد غيوم؛ كانت كتلًا كثيفة من السواد تتحرك ببطء، وكأنها تتعمد حجب الشمس عن العالم الذي خذل نفسه. ومع كل هبة ريح، كانت رائحة التراب المختلط بالدخان ترتفع، وتذكّرهم بأن المدينة ما زالت تحتضر
...أما الطابور نفسه
فكان خليطًا من البشر يحمل كل واحد منهم قصة.
طفل يلتصق بثوب أمه وهو ينظر بخوف إلى التلاميذ.
شاب يضغط على قبضته محاولةً لإخفاء ارتجافه.
امرأة عجوز تردد أدعية لا يسمعها أحد.
وهناك آخرون يحدقون في الأرض بعيون فقدت البريق تمامًا، وكأنهم لم يعودوا واثقين إن كانوا يريدون النجاة فعلًا.
بعد ساعات من الانتظار...
وقف الاثنان أخيرًا أمام منصة الاختبار. كان الجو خانقًا؛ روائح العرق، التراب، والقلق تملأ الهواء. صراخ متقطع يأتي من بعيد، وضربات غريبة على الأرض تُسمَع بين الحين والآخر، وكأن هناك شيء ما يتحرك تحت التراب.
على يمين المنصة خيمة سوداء يخرج منها ضوء بنفسجي خافت، وعلى يسارها طاولة حديدية عليها الأجهزة الغريبة الخاصة بالاختبارات. التلاميذ الشيطانيون يرتدون عباءات داكنة، ومظهرهم وحده كافٍ لإخافة أي شخص طبيعي.
نظر الممتحن إليهما بازدراء واضح، لكنه لم يقل شيئًا... إلا أن نظرته تغيّرت عندما التفت نحو فيكتوريا. توقفت عيناه على جسدها الصغير لثوان طويلة، بنظرة شهوانية لم يُخفها أبدًا. احتقن وجه الفتاة، لكنها أخفت غضبها كي لا تتسبب لأي مشكلة تعيق أخاها.
كانت فيكتوريا ترتدي ملابسها المحتشمة الأنيقة كعادتها؛ فذلك المنزل الذي تربت فيه لم يسمح يومًا بالتفاهة أو بالانجرار خلف ثقافة "العري اللامع" التي تروج لها الشركات العالمية. لم تكن مثل المراهقات
اللواتي يعتقدن أن قيمتهن تُقاس بما يظهر من أجسادهن.
مجرد تقليد أعمى لشركات لا تهتم إلا بالمال. تربية عائلة ويليام لم تسمح لها بأن تكون مثل ذلك.
كانت مختلفة... نقية... أصيلة.
...بدء الاختبار...
تقدم ويليام أولاً. حاول أن يبدو ثابتًا، لكن قلبه كان ينبض بقوة.
كان الجهاز المخصص لقياس النخاع أشبه بإبر طويلة ملتفة على بعضها، وفي نهاياتها شرارات كهربائية ترقص في الهواء. يكفي النظر إليها لتحس بوخز في جلدك.
أما جهاز الإرادة فكان خوذة ضخمة، داخل عدساتها تتحرك ثعابين ملوّنة تتلوى ببطء، وكأنها تنتظر روح من يضع الخوذة. لم يعرف أحد ما إن كانت حقيقية أم مجرد طاقة.
بينما جهاز قياس قوة الروح بدا كآلة أشعة سينية للرأس، إلا أن جانبَيها امتدا منهما خيوط سوداء رقيقة تشبه ستائر الليل، توضع في الأذنين لتتغلغل مباشرة نحو الروح.
استغرق كل اختبار لحظات، لكنها كانت كافية لإغراق ويليام بين القلق والأمل. شعر فيكتوريا بتوتره، وهزّت يدها بخفة، لكنه لم يلتفت... كان مركزاً بالكامل.
خرجت الأرقام ببطء الواحدة تلو الأخرى:
قوة الروح: زرقاء
درجة النخاع: عالية
قوة الإرادة: حديدية... 503
لم يصدق الكثيرون أعينهم. بدأ الناس يتبادلون النظرات قبل أن يعمّ الهمس:
"أرأيتم الرقم ؟! لديّ صديق رأى مرة رقمًا قريبًا لهذا... الطائفة يومها فعلت المستحيل لتجنيده. وحتى طائفة أخرى جاءت لتختطفه منهم!"
"حتى ابن عمي حكى لي شيئًا مشابها... قال إن أصحاب الإرادة العالية يُعاملون ككنوز!"
اتسعت عينا ويليام بالفرح، ورغم محاولته إخفاء ابتسامته لم يستطع.
بينما الممتحن نفسه حدّق في اللوحة الإلكترونية بدهشة واضحة، كأنّه لم يتوقع يومًا أن يرى هذه الأرقام أمامه.
